ده الحقيقة مش بوست لكنه حكاية قرأتها لآخرها رغم طولها ونيتي المسبقة بالمرور عليها مر الكرامالحكاية:ســـلامة هو أطيب شخص عرفته في حياتي ،نشأنا معا في الأنفوشي، الحي الذي يعتبره أهله أصل الإسكندرية .. يعيش مع أمه في حجرة فوق سطوح أحد المنازل القديمة ، عميق السمار من أصول نوبية وقد يكون هذا سببا لطيبته المتناهية و دماثة خلقه ، أطلق عليه أبناء الحي لقب "سلامة مجانص" لأنه كان من أبطال كمال الأجسام الذين يمارسون تدريبات هذه الرياضة بمنتهى الالتزام ، ولأنه كان يميل للقصر فقد بدا مع كمية العضلات في صدره وذراعيه مربع الشَـكل وكان يتعمد ترك أغلب أزرار قميصه مفتوحة لإظهار عضلات صدره و كأنه يود أن يستعرض أمام الجميع ما بذل الساعات الطويلة في الحصول عليه.. يمشى بين الناس وعلى وجهه ابتسامة ثقة وطيبة واستعداد فطري لمساعدة من يطلب المساعدة . وفى أوقات فراغه المتبقية بعد عمله في المصنع و تدريبات بعد الظهر يذهب إلى سينما رأس التين لمشاهدة أفلام الكاراتيه.
كنت أكن له حبا صادقا لطيبته وشهامته ، وكانت أسعد أوقاته عندما يفوز بكأس أو ميدالية في إحدى البطولات فيحضرها ليريها لأبناء الحي ، وكان في قمة سعادته عندما نشرت إحدى الصحف اسمه في خبر صغير متعلق ببطولة كمال الأجسام ..لم تكن تجمعنا صداقة وإن كان جمعنا الود والاحترام ..حدثني يوما عن فاطمة أو "بطة"كما يدعونها في الحي، ولأنه لا يحب اللف و الدوران فقد قرر أن يتقدم لخطبتها لكن أمها راحت تتباهى بأن بنتها جميلة و بيضاء كالشمعة وكررت هذا التعبير عدة مرات ففهمت أمه أنها تتعالى عليهم كونهم سـُـمـْـر...نصحته أن يدع النساء خارج الموضوع ويكلم والدها بنفسه ..بدا عليه التفكير والتردد فقلت له مشجعا:
ـ أنت رياضي و كسيب و جدع وكل الأنفوشى يعرف شهامتك فليس هناك ما يدعوك للتردد، ثم إن الحالة المالية لأهلها متواضعة فلن يغالوا في طلباتهم منك، أتكل على الله و فاتح أبوها في الموضوع.
تركته و قد بان على وجهه الاقتناع ، وبالفعل تزوج سلامة من محبوبته ..ثم انقطعت أخباره عني بعد أن غادرت الأنفوشي ثم قمت بالهجرة إلى كندا ، ثلاثين عاما حيث تزوجت وأنجبت ثم رحت اسأل نفسي ذلك السؤال الخالد : هل أعود أم أبقى ؟
..................................
قررت العودة إلى مصر بمفردي في أجازة غير محدودة المدة لاستطلاع الأمر و دراسة جميع الاحتمالات. كنت بعد زواجي قد اشتريت شقة واسعة في حي الشاطبي ، ظلت هذه الشقة خالية نستخدمها فقط في زياراتنا المتباعدة لمصر، لكني فضلت هذه المرة ألا أقيم بها .. قمت باستئجار شقة على البحر مباشرة لها شـُرفة واسعة تطل على الكورنيش . ملأت الثلاجة بالطعام و المشروبات و اشتريت مجموعة هائلة من شرائط أغاني الزمن الجميل، كنت مصمما أن أقضي عطلة ممتعة و لم يكن يمنعني شيء من تحقيق هدفي .
كانت أمسيتي الأولى في الشقة رائعة، أعددت لنفسي وجبة خفيفة تناولتها في الشـُرفة على أنغام أم كلثوم و أنا أستنشق عبير البحر وأرنو إلى الشمس الغاربة ويحتويني بالتدريج حلول الظلمة ، يخيل إلى أنه كلما تقدم بي العمر كلما زاد استمتاعي بما حولي ، حتى مذاق الجبن البيضاء أصبحت أستطعمها بطريقة خاصة ..كنت أطل من الشـُرفة على البحر الساحر مستمتعا بالطعام والشراب والأغاني ، وأقول لنفسي : آه لو تدوم لي مسرات حياتي البسيطة تلك .
......
مر الأسبوع الأول على ما يرام ، شغلت وقتي بالتمشية على الكورنيش أو زيارة المتاحف ، اشتريت مجموعة من الكتب لكـُتاب معروفين لي من قبل سفري..حضرت أمسية شعرية في أحد دور الثقافة ..تعمدت ألا أتابع الأخبار وإذا حدث نقاش أمامي في أحوال البلد تجنبت الدخول فيه، أقنعت نفسي بأنني في عطلة ويجب أن أجنب نفسي المواضيع المحبطة.
بالتدريج بدأت مشـــاعر غريــبة تنتابني، مزيج من الحزن والشجن والقلق..لم استطع خداع نفسي ، لم تتمكن أنشطتي الثقافية و الترفيهية من التغلب على هذه المشاعر.. أصدقاء زمان أغلبهم خارج البلد وبعضهم مات .. والقليلون الذين قابلتهم شعرت أنى أفرض نفسي عليهم ، وهذه المشاعر اللعينة تأبى أن تفارقني ..............
قررت أن أزور الأنفوشي حيث عشت طفولتي و صباي ربما تخفف زيارتي من مشاعر النكد التي استحوذت علي ، مر بخاطري سلامة مجانص الذي لم أره منذ ثلاثين عاما ..وصلت للمنطقة حوالي الخامسة، تمشيت على الكورنيش، لاحظت أن رصيف الشارع وسور البحر قد أصابهما الهرم، دخلت مسجد سيدي أبى العباس و صليت جماعة، نظرت في وجوه المصلين فلم أعرف أحدا ..ذهبت إلى شارعنا القديم ، المنازل هدمت وحلت محلها عمارات عالية ..بعض المباني هدمت و تركت خرابات في انتظار ارتفاع الأسعار ، مازال المقهى موجودا ، جلست أعاين المكان والناس، جاء "الجرسون" فعرفته بنفسي وطلبت منه أن يرسل في طلب سلامة مجانص .
في انتظار مجيئه أعطاني تقريرا كاملا عن أهالي الحي ، من ذهب ومن رحل ، ذكر أسماء نسيت معظمها فاضطر أن يذكرني بها، سألته عن سلامة فأجاب بأنه - بطبيعة الحال - قد هـَرِم و لكنه مازال "زى الجـِـن".
بالفعل أبصرته يقترب وفى مشيته بعض ملامح الخيلاء القديمة ، زحف شعره للخلف و اختلط بياضه بسواده ، شد على يدي بقوة ثم عانقني مرحبا ، حكيت له عن هجرتي في كلمات قليلة حتى أدعه يتكلم، أخبرني أنه أنجب محمد و سلامة و سالي ، وأن الشركة التي يعمل بها قد أخرجته معاشا مبكرا ..شرعت أتأمله ، بالتأكيد يرى تغييرا مماثلا فيا أنا ، ابتسامته القديمة صارت مرهقة، سألته عن زوجته فأخبرني أنها بخير و إن كانت هشاشة العظام جعلتها تبدو أكبر من عمرها بكثير !!.
سألته مداعبا عن البطولات فرد ضاحكا: ـ انتهى زمنها من سنين ..سألته عن أحوال المعيشة بعد أن لاحظت أنه لم يشتك من صعوبات الحياة كما يفعل الجميع ، فأجاب باختصار: رضا .
انتابتني رغبة مـُـلـِـحة في رؤية البحر، دفعت الحساب بالإضافة لبقشيش سخي ، قمت مع سلامة فاخترقنا ميدان المساجد مرورا بضريح السبع مشايخ و مسجدي أبى العباس و الأباصيري ، عبرنا الكورنيش متجهين إلى سور الميناء الشرقية، أخذت أنفاس عميقة من هواء البحر ..كان الوقت قبيل الغروب مباشرة ..رنوت إلى الأفق والحديقة والمساجد ، كم أعشق هذا المكان وأشعر أنني جزء منه . استدرت إلى سلامة وطلبت منه أن يحكي عن أولاده بالتفصيل ، قال
ـ الكبير محمد تخرج من كلية التجارة من ثلاث سنوات ويحاول أن يجد عملا..يريد السفر إلى بلد عربي لكنه لا يعرف الوسيلة .. ابني الثاني سلامة تخرج السنة الماضية في كلية التربية الرياضية وأرجو أن يكون حظه أسعد من أخيه ويجد عملا ، آخر العنقود سالي ستنتهي من معهد السكرتارية العالي خلال شهور .
عدت بذاكرتي إلى ثلاثين سنة مضت عندما جلست أنا و سلامة في نفس المكان نتبادل الحديث عن مشروع زواجه، استطرد قائلا :
ـ الحياة صعبة و لكن ربنا ساترها، المشكلة في الأولاد !!..عدم شغلهم غير شخصيتهم ، أصبحا دائما الشكوى تنتابهما حالات من الكآبة .. لا عمل لهما سوى الجلوس على المقاهي وصرت أخشى عليهما من رفقاء السوء . وحتى البنت تشعر أن مستقبلها لن يكون أحسن من أخويها و تتساءل عن فائدة إتمام دراستها !! .
فكرت فيما قاله، إنه يصف أحوال البلد كلها وليس حال أسرته فحسب ، خرج من صمته و سألني بحياء:
ـ هل يمكن أن تأخذ الولدين عندك في كندا بدلا من سفرهما إلى بلد عربي أو تسللهما إلى أوروبا .. إنهما مؤدبان وعندهما القدرة على العمل بتفاني .
شرحت له في صبر صعوبة طلبه.. يجب عليهما القيام بإجراءات رسمية للهجرة وقبولهما يتوقف على عوامل عديدة منها إجادة اللغة و خبرتهما في مجال تحتاجه البلد ، لا أدرى كيف تقبل كلامي وهل ساوره الظن أنى أتهرب من مساعدة أولاده، جلسنا صامتين عدة دقائق ثم قلت :
ـ ســلامة، عندي شقة كبيرة في الشاطبي لا أستخدمها يمكن أن نحولها إلى نادي كمال أجسام، المكان موجود وخبرتك موجودة و أبناءك يمكنهم العمل في النادي كل حسب تخصصه .. نظر لي وهو يحاول استيعاب ما قلت، سألني:
ـ اتعني أن نعمل مشروعا ؟
أجبته بحماس:
ـ نعم، مشروع نادي لكمال الأجسام و اللياقة البدنية يكون شركة بيني و بينك.
ارتسمت على وجهه ابتسامة من ابتسامات الماضي الجميل، شرحت له التفاصيل المبدئية كما أتصورها ، ثم شددت على يده و استأذنت للانصراف .
...........
كنت سعيدا بفكرتي ، قد يكون هذا المشروع دافعا لاستقراري بمصر بعد ثلاثين عاما ، قررت أن أستخدم خبرتي التي اكتسبتها من عملي بالخارج في التخطيط للنادي بطريقة مدروسة، وضعت خطة مكتوبة قسمتها إلى أنشطة منفصلة حددت ميعاد بداية و نهاية كل نشاط واسم المسئول عن إتمامه و كم سيكلف، لمدة يومين لم يقتصر بقائي في الشرفة على الأكل و الشرب و سماع الأغاني !!
عندما انتهيت من خطة المشروع ذهبت لمناقشتها مع سلامة و أسرته، كانت أول مرة أرى أولاده : سمارهم داكن مثل أبيهم و ملامحهم وسيمة و يغلب عليهم الأدب و اللياقة، تعمدت أن يكونوا شركاء في المناقشة ..وجدتهم على درجة عالية من الذكاء والحماسة للمشروع، تضمنت الخطوط العريضة للخطة كتابة عقد مشاركة بيني و بين سلامة وإجراء تغييرات في الشقة كي تناسب نشاط النادي ثم شراء أجهزة و معدات التمرينات و خطة مفصلة بطبيعة عمل كل فرد في الأسرة، محمد سيتولى النواحي الإدارية و المالية بينما سلامة الأب بحكم خبرته وابنه بحكم دراسته سيتوليان التدريب و الإشراف على الأجهزة ..أما ســالي فستتولى أعمال السكرتارية والرد على التليفونات.
كان هناك العديد من الصعوبات، بعضها يرجع لقلة خبرة سلامة و أبنائه في إدارة المشاريع و أغلبها يعود للروتين القاتل وعدم التزام كل من نتعامل معهم بكلمتهم واستخدامهم الفهلوة حيث ينبغي الجد ، عالجت هذه الصعوبات بالصبر أحيانا و بالحزم أحيانا و بفلسفة الأمور أحيانا أخرى .
وضعت فترة ستة أسابيع لإنهاء التجهيزات وبدء التشغيل، كانت تجربة تعليمي و توجيهي لسلامة و أبنائه أكثر ما تمتعت به خلال هذه الفترة، كانت حالتهم النفسية تتأرجح بين الإحباط و التحمس تبعا للمشاكل التي تواجههم وكان على أن أرفع من حالتهم المعنوية كلما ازدادت الصعاب، وفى نفس الوقت لمست فيهم مقدرة على العمل الدءوب و لمحات من الذكاء الفطري ، أما أنا فقد شغلني المشروع تماما ولم أعد أشتكي الغربة ..أقاربي وأصدقائي عارضوا الفكرة ..كان هناك شبه إجماع على أنه سيفشل وأنني سأخسر الشقة !!، البعض اعتبرني حالما والبعض الآخر اعتبرني أتصرف كخواجه .
مرت الأسابيع الستة و تم افتتاح "نادي الأبطال للياقة البدنية و كمال الأجسام" أقمنا احتفالا بسيطا وزعنا اشتراكات مجانية لمدة أسبوع على أمل أنهم سيصبحوا أعضاء في المستقبل .
حرصت على أن أتواجد خلال ساعات العمل لمراقبة كيف تسير الأمور، لاحظت أن سلامة و أبناءه ينقصهم مفهوم أن واجبهم خدمة أعضاء النادي ، وحتى إذا قاموا بخدمة فهي بالنسبة لهم جدعنة لا واجبا عليهم !!، عملت على تغيير هذا المفهوم الخاطئ وشرحت لهم أن كونهم أصحاب المشروع لا يعنى عدم التفاني في خدمة إرضاء الأعضاء لأنهم مصدر الدخل !!.
وعندما شعرت أن الأمور تسير كما يجب انسحبت من الصورة واكتفيت بزيارات سريعة متقطعة .
...........
خلال فترة انشغالي بمشروع النادي نسيت تماما مشاعر وشغلني المشروع عن متابعة أحوال البلد ..كان شكوى الناس الدائمة كأنه مرض عضال أحاول أن أخفف من أعراضه بالانشغال بموضوع آخر لشعوري باستحالة علاجه.
وذات صباح كنت أتجول في الشوارع حين شعرت بحركة غريبة في الشارع المؤدي من محطة ترام الجامعة إلى شارع أبى قير، كان هناك العديد من عربات الشرطة والنقل المليئة بالجنود والناس تتابعها بشيء من وجوم، كانت هناك هتافات خافتة و متفرقة فاستنتجت وجود مظاهرة ، توجهت بخطوات سريعة نحو مصدر الهتافات، كانت صادرة من أمام نادي أعضاء هيئة التدريس بالجامعة ، كان هناك صف من رجال الشرطة يسد مدخل الشارع و العديد من عربات الشرطة على جانبي الطريق . المتظاهرون قدرت أعدادهم بما لا يزيد عن المائتين، بعضهم يحمل لافتات تطلب تحسين أحوال أساتذة الجامعة ..كانت هتافاتهم خافتة وغير منظمة وكأنهم يستحون من أن يسمع أحد أصواتهم !!.. أعمارهم كانت تتراوح بين أواسط العشرينات وأواخر الستينات، لم يكن هناك كثير من المتفرجين مثلى و كنت أقربهم لصف رجال الشرطة، طلب منى أحد جنود الصف بطريقة خجلة مترددة أن أغادر المكان، ابتعدت قليلا دون مناقشة ثم اقتربت مرة أخرى من الطابور ، تأملت وجوه الجنود فبدوا لي جميعا من الأرياف، البؤس واضح على وجوههم كأنهم يلعنون الظروف التي حكمت عليهم أن يعملوا في هذه الوظيفة، سألت نفسي ألن يكونوا أسعد حالا لو عادوا لقراهم كي يعملوا في الأرض؟
انتزعني من أفكاري صوت فيه حدة، كان هناك لواء شرطة حوله أثنين من العقداء يتحدثون إلى بعض المتظاهرين، من كلام الطرفين فهمت أن المتظاهرين يودون أن يسيروا في مظاهرة سلمية إلى مبنى إدارة الجامعة الواقع على البحر بينما الضباط يريدوهم أن يخلوا الشارع ويواصلوا التظاهر – إن شاءوا - داخل أسوار ناديهم.
كان المشهد يبدو عبثيا بين الحركة الدائبة لعربات الشرطة وتوتر الضباط و بؤس الجنود وضآلة حجم المظاهرة وتردد المتظاهرين ولا مبالاة المارة ، قد يكون هذا هو سبب قراري المجنون بالانضمام للمظاهرة !!.. فكرت – لا أدري كيف- أن أقنع المتظاهرين أن تتحول المظاهرة من غرضها المحدد لتحسين أحوال أساتذة الجامعة إلى إدانة كل الأوضاع الخاطئة في البلد ، وبدلا من أن تسير إلى مبنى الجامعة كما يرغبون تسير إلى الكليات المجاورة لحث آلاف الطلاب على الانضمام للمظاهرة، حلمت للحظة أن تكون هذه بداية صحوة شعبية!!. دخلت وسط المتظاهرين كما لو كنت ألتمس الحماية بينهم ، شعرت أنهم واقعون تحت ضغط نفسي هائل ، ضائعون وكأنهم يسألون أنفسهم هل أصابوا أم أخطئوا !، انعكس هذا في هتافاتهم التي كانت خافتة و غير منظمة، مازال لواء الشرطة يتناقش بحدة مع أثنين من قادة المظاهرة، فهمت انه يعطى مهلة خمس دقائق لكنه لم ينتظر الخمس دقائق التي وعد بها بل أعطى إشارة لجنوده و للمخبرين المندسين وسط المظاهرة فهجم العشرات منهم على المتظاهرين يضربونهم بخيرزاناتهم و يدفعونهم تجاه عربات النقل المعدة لحملهم، موجة من الصياح و العنف و الجنون اكتسحت المكان، عمد بعض الأساتذة بالذات كبار السن منهم إلى تأنيب رجال الأمن على عنفهم و لكن الضربات المنهالة عليهم أقنعتهم أن مغادرة المكان مع محاولة تفادى الضرب هو خير ما يجب فعله. كان تفكيري الشخصي منصبا على سلامتي وتجنب القبض علي لكني لم أفلح .. شعرت بأيد تدفعني من الخلف وتدفعني صوب إحدى سيارات النقل ..نظرت خلفي بغضب وأنا أحاول التشبث بمكاني فوجدت مخبرين بملابس مدنية يدفعانني بعنف بينما يلكزني أحدهما في ظهري بشيء صلب تبينت أنه "بونية" حديدية يرتديها في يده !!، لم تكن هناك فائدة من المقاومة فاستسلمت لقدري .. وخلال لحظات امتلأت السيارة بنحو خمسين متظاهر فأُغلق باب الصندوق و تحركت العربة، كان بالصندوق دكتان واحدة على كل جانب يكفيان معا لعشرين راكب فأضطر الباقون للوقوف وقد أخذوا في التمايل ..العجيب أنني شعرت بأني محظوظ لأني وجدت مكانا للجلوس ولم أعاني مثلهم . لم يستغرق المشوار طويلا فقد حملتنا العربة إلى قسم شرطة باب شرقي والذي يبعد عن مكان المظاهرة مسافة قصيرة.
.......
تتابعت الأحداث بسرعة، نزلنا من عربة النقل حيث اقتادنا الجنود إلى حجرة واسعة ثم طلبوا من كل فرد بطاقة الرقم القومي، بعد دقائق حضر فوج آخر من المتظاهرين لا شك أنهم حمولة عربة نقل أُخرى، قدرت أن عدد المحتجزين بالحجرة يقارب المائة، كان هناك جو عام من القلق و التذمر و الخوف يخيم على المحتجزين، بعضهم - بالذات كبار السن - توهموا أن سنهم المتقدم ومركزهم الاجتماعي سيحميهم من سوء معاملة الشرطة ..كنت أحاول استيعاب الموقف رغم القلق الذي اعتراني..ثمة شيء سعيد داخلي من كل هذه الإثارة، وشعور داخلي بأني محظوظ أكثر من غيري لكوني أحمل جنسية أخرى !! فإذا تأزمت الأمور ستكون هناك حكومة أخرى تهتم بأمري ، تجولت في الحجرة وسط الزحام، كان هناك رجل في أواخر الستينات يحاول أن ينفض التراب عن بذلته و هو يشكو بانفعال من قيام رجال الأمن بسحله دون أن يراعوا كبر سنه ومقام وظيفته، في جانب آخر شاب يشرح في هدوء أن الموضوع ليس خطيرا وأن الشرطة تضايقهم فقط حتى لا يكرروا التظاهر مرة أخرى ..وفي النهاية سيتم الإفراج عن الجميع بعد قضاء ليلة أو ليلتين في الحجز، سألته كم مرة قــُـبض عليه من قبل، فأجاب ببساطة أنها المـَرَة الثالثة !! .
بدأت عملية عرض المتظاهرين على الضابط المسئول، كل خمس إلى عشر دقائق يصيح أحد الجنود باسم واحد من المحتجزين ثم يقوده إلى حجرة التحقيق، بحسبة بسيطة وجدت أن التحقيق سيستمر عشر ساعات !!.
أخذت أفكر في الإستراتيجية التي سأتبعها عند التحقيق، قررت أن أركز على أنى مقيم بالخارج و أنى في عطلة ..مجرد عابر سبيل أخطأ رجال الأمن و قبضوا عليه مع المتظاهرين !!.. قررت أيضا أن أركز على كـِـبـَـر سني و أنى لا أعمل في الجامعة مع تلميح خفيف أنى أحمل جنسية بلد آخر مما قد يعرض الشرطة ووزارة الداخلية للمتاعب إذا أساءوا معاملتي!! .
لم أكن أدرى إن كان هذا السيناريو سيساعدني أم لا و لكن كان هذا أحسن ما فكرت فيه ، قضيت الوقت أتابع ما يحدث حولي كأني أشاهد مسرحية هزلية ..بعد ساعتين نادى الشرطي على أسمى و اقتادني لمكتب الضابط .. لم يكن هناك مقعد فاضطررت للوقوف ، بطريقة متعمدة لم ينظر الضابط لي و لكنه أستمر في النظر لبعض الأوراق أمامه، تأملته أثناء وقوفي، في منتصف الثلاثينات برتبة رائد.. طويلا عريضا تبدو على ملامحه العنجهية، سألت نفسي هل هذه الملامح مجرد قناع لزوم الوظيفة أم هي سمة أصلية فيه؟ هل له حياة أسرية ويتهلل وجهه للمسرات البسيطة مثل باقي الخلق ؟ هل يمكن أن يجتمع في نفسه شخصيتان أحدهما عادية متحضرة يعيش بها حياته الخاصة و أخرى قاسية مجرمة لزوم المهنة؟ أخيرا سألني بصوت عال متذمر وهو ينظر لي محاولا تقييمي:
ـ اسمك؟
أجبته بصوت واضح وهدوء و أنا أنظر إليه نظرة محايدة تعمدت ألا تكون نظرة تحدى أو خوف وخنوع. سألني مرة أخرى بنفس اللهجة الهجومية المتذمرة:
ـ وظيفتك؟
أجبته بنفس لهجتي الهادئة: مهندس.
أزاح مقعده للخلف، عـَوَج رأسه ناحية اليمين و أغلق عينه اليسرى نصف إغلاقه و صمت برهة وهو مستمر في التحديق ثم قال:
ـ أنت لست من أساتذة الجامعة، فلماذا انضممت لمثيري الشغب ؟
وقبل أن أرد أستمر في كلامه:
ـ تعمل مهندس أين؟
شرحت له أنى غير مقيم في مصر و أنى أعمل مهندس بالخارج و أنى موجود في مصر لمجرد الزيارة ومن غير المعقول أن أحضر في زيارة عدة أسابيع و أقوم خلالها بإثارة الشغب أو التظاهر مع أفراد لا تربطني بهم علاقة مهنية، و في نبرة عتاب قلت أنى مجرد عابر سبيل اقترب من المظاهرة بدافع الفضول وكان اعتقالي خطئا من رجال الشرطة ، وسأقدر جدا لو انتهى الموضوع الآن وتركوني أذهب لحال سبيلي ، ثم أردفت بنبرة ذات معنى أن سفارة بلدي ستقدر له ذلك.
أجاب وكأنه لم يسمع :
ـ أنت إذن تعيش في الخارج ولك اتصالات بجهات أجنبية، هذا يجعل موقفك في منتهى التعقيد، سيتم حجزك حتى نبحث مدى خطورتك على أمن البلد !!.
ثم أمر أحد الجنود بإدخالي زنزانة الحجز.
.........
الموضوع أصبح جد خطير، جلست على الأرض ولأول مـرة شعرت بالخوف، ترى كم يوم أو سنة سأقضيها هنا؟ وما هي حقوقي ؟ هل سيسمحون لي بعمل مكالمة تليفونية؟ لم يعد عندي رغبة في الحديث مع زملاء الزنزانة ولا حتى النظر إلى تفاصيل ما حولي ، أصابني قنوط شديد ، وكان أصعب ما في الأمر شعوري أن مصيري في يد آخرين لا يحكمهم قانون ولا مبادئ، لمت نفسي على تهوري و دخولي وسط المتظاهرين، ولكن أليس هذا بالضبط ما يحاول النظام الوصول إليه؟ أن يشعر كل من يعترض على الحكومة بالأسف والندم والقنوط والإحباط، لم أعد أدرى ما الصواب وما الخطأ ..وبرغم صلابة الأرض و قذارة المكان استغرقت في نوم عميق كما لو كان النوم وسيلة للهروب، حلمت بزوجتي و الأولاد في بيتنا، ظهروا لي في عمر الطفولة يلعبون أمام المنزل أثناء نزول الجليد ..كان الأولاد في منتهى السعادة وهم يستخدمونه في عمل تمثال لرجل جليدي يقف في الساحة أمام منزلنا.
استيقظت على الواقع المظلم الذي يحتويني ، كان التناقض مؤلما بين الحلم و الواقع ، نمت على الأرض ما يقرب من عشر ساعات ، كيف أخرج من المأزق الذي وضعت نفسي فيه ؟ هل أطلب أن أتحدث مع أخي تليفونيا ؟ هل أتصل بسفارة بلد مهجري كي ينقذوني ؟
بدأ أحد زملاء الزنزانة في قراءة القرآن، وكأنني كنت محتاجا لهذه القراءة كي أتذكر أن أتوجه إلى ربي بالدعاء .
فى منتصف النهار فـُـتح باب الزنزانة و نودي على أحد المحتجزين ثم أغلق الباب، ترى ما مصير هذا الشخص؟هل سيتم الإفراج عنه أم سيـُـرَحـَـل إلى أحد السجون كي يقضى فيه بقية عمره دون محاكمة ؟ في العصر نادواَ على رجل آخر ، أخذت أقرأ بعض سور القرآن القصيرة في سرى وأدعو الله أن تنتهي كربتي ..في المساء نادوا على اسمي ، اقتادني الشرطي إلى حجرة التحقيق مرة أخرى، كان هناك ضابط آخر يبدوٌ عليه التبرم والقرف، أخبرني بلهجة روتينية أن اشتراكي في المظاهرة يستوجب تقديمي للمحاكمة تبعا لقوانين الطوارئ التي تمنع التجمهر ولكن وزارة الداخلية لن تــٌصـَـعد حالتي لكونها أول مرة وبشرط أن أتعهد بعدم الاشتراك في أي أنشطة مناهضة أخرى .. طلب منى التوقيع على تعهد بهذا المعنى، مضيت على التعهد دون أن أقرأه ثم أخذت رقمي القومي من الضابط وخرجت.
............
وقفت خارج باب القسم أنظر إلى الدنيا من حولي ، كان المســاء باردا و منعشا مما عمق شعوري بحريتي ، أنزاح كابوس السجن من على صدري رغم خجل استشعره من عدم صلابتي في مواجهة هذا الموقف، لم يكن من المفروض أن أشعر بكل هذا الهم داخل الزنزانة.
شعرت أنى بحاجة لصحبة حنون فمضيت إلى شقة أخي في وسط البلد، ما أن شاهدني حتى شعر أن هناك شيئا خطأ، ملابسي القذرة والتعب البادي على وجهي .. سألني ماذا حدث فأجبته باختصار، بدأ مسلسل اللوم والعتاب الذي شاركت فيه زوجته، بالعقل والمنطق أثبت لي أنى أحمق ..لم يكن هناك جدوى من الجدل لشعوري أن أغلب كلامه صواب ..دخلت شقتي كأني أحتمي بها من هذا العالـَم، أعددت لنفسي عشاء وافرا تناولته فى الشرفة بصحبة أفكاري المتضاربة ثم أخذت حـَمـَاما و دخلت أنام و أنا أشعر بالامتنان لوثارة ونظافة الفراش .
صـٌدمت من رد فعل الأقارب والأصدقاء ، لم أكن أتوقع أن يمدحني أحد أو يطيب خاطري ولكني لم أتوقع كل هذا اللوم والسخرية ..خواجة لا يعرف طبيعة الأمور هنا !! .. البعض اعتبرني محظوظا لأني لم أضرب أو أهان .
بعد يومين انتابتني رغبة مـًـلحة جارفة أن أغادر مصر، شعرت فجأة بحنين شديد لزوجتي وأولادي و حياتي الهادئة في الجانب الآخر من العالم ، حجزت تذكرة الرجوع، أمضيت يوما كاملا في وداع أقاربي وأصدقائي ، حرصت على زيارة ســلامة و أبنائه في النادي ..استدعيت سيارة أجرة وطلبت منه التوجه للمطار.
سرحت مع أفكاري في فترة الأربعة أشهر التي قضيتها في مصر، الراحة والكسل ثم مشروع النادي وأخيرا المظاهرة ، لم أكن نادما ولا سعيدا ، ولكني كنت أتمنى أن أنجح في مساعدة البلد كما نجحت في مساعدة سلامة و أسرته، إلى حد ما اعتبرت زيارتي مـُـوَفَــَـقـَـة وأخذت أفكر في زوجتي وأولادي ولقائي المرتقب بهم.
.................
هدأ السائق من سرعة السيارة و تمتم ببعض العبارات المتذمرة، كان هناك العديد من عربات الشرطة تسد شارع بورسعيد و أحد جنود الشرطة في منتصف الشارع يطلب من السيارات تغيير مسارها ..حالة من الهيجان تسود المنطقة، شــرح لى السائق أن المهندسين معتصمون أمام مبنى فرع نقابتهم و أنهم ينوون القيام بمظاهرة للاعتراض على أوضاعهم المهنية وتجميد الحكومة لأعمال نقابتهم وعلى الأوضاع العامة عموما في البلد ، كان هناك بضعة مئات من المتجمهرين أمام مبنى النقابة يحيط بهم ضعف عددهم من رجال الشرطة.
نظرت إلى سائق سيارة الأجرة وقلت له بلهجة ودودة:
ـ ســأطلب منك خدمة، هل يمكنني أن أعتمد عليك؟
رد بالإيجاب وهو متعجب من ســؤالي ، كتبت عنوان أخي في ورقة و مع العنوان ذكرت لأخي أنى قررت إلغاء سفري لأسباب غاية في الأهمية، أعطيت الورقة للسائق وطلبت منه أن يعطيها مع الحقيبتين لأخي ، دفعت له أجرته كاملة ونزلت من العربة كي أنضم إلى المظاهرة.
***اللينك الخاص بالحكاية يسمح بالتعليق عليها
طبعاً أنا أخذت موافقة صاحب الحكاية قبل نشرها هناتحديث: الحكاية لفتت إنتباه أحد كُتّاب المصريون